- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2025-06-11
جريدة الراية: جدل واسع في الكويت
حول "الهوية الوطنية"
تتفاعل في الكويت منذ فترة قضية سحب الهوية الوطنية "الجنسية" من عشرات الآلاف من أهل البلد، لأسباب متعددة أعلنت عنها السلطات الرسمية. وهي قضية شبيهة نوعاً ما بما يسمى قضية البدون التي يعاني من تبعاتها مائة ألف أو يزيد من سكان البلد. ولسنا في هذا المقام بصدد التفصيل في جوانب قانونية ودستورية وتاريخية لهذه المشاكل والقضايا، ولكننا بصدد الأخذ بيد القارئ إلى حياة لا توجد فيها مثل هذه المشاكل، بل لا توجد فيها بواعث ودوافع هذه المشاكل، وأقصد بتلك الحياة الحياة الإسلامية الراشدة.
إن مفتاح المسألة الفكري والفقهي هو الأحكام الشرعية المتعلقة بتحديد الرعوية وأساس الحقوق والواجبات لرعايا الدولة. وهو جانب مهم في الفكر السياسي الإسلامي، قلّما يتم طرحه بشكل مفصل وعملي وذلك بسبب طغيان الرابطة الوطنية النتنة وما بني عليها من أفكار فاسدة ومشاعر أنانية.
في البداية نقول إنه من يتخذ من دار الإسلام مقاماً له فإنه يكون حاصلاً على التابعية الإسلامية سواء أكان مسلماً أم غير مسلم. ودار الإسلام شرعاً هي البلاد التي تكون محكومة بسلطان الإسلام وتعلوها سيادة الشرع، ويكون أمانها الداخلي والخارجي بأمان الإسلام.
فالإسلام قد جعل جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية يتمتعون بالحقوق ويلتزمون الواجبات الشرعية. أما من يعيش خارج الدولة، مسلماً كان أو غير مسلم، فلا يعتبر من رعاياها وبالتالي يُحرم مما يتمتع به رعاياها. فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: ... وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ؛ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ». فهذا الحديث صريح بأن من لا يتحول إلى دار الإسلام ولو كان مسلماً لا يملك أي حق من حقوق الرعوية. ولهذا لا تشمل الأحكام المسلم المستوطن خارج دولة الإسلام فلا يعطى حق الرعوية، لأنه إنما يكسبه الشخص إذا تحول إلى دار الإسلام، ويحرم منه إذا كان في غيرها. وتشمل الأحكام الذمي الذي في دار الإسلام فيعطى حق الرعوية.
وجميع الذين يحملون التابعية الإسلامية يتمتعون بالحقوق والواجبات الشرعية، ولا يجوز للدولة أن يكون لديها أي تمييز بين أفراد الرعية في ناحية الحكم أو القضاء أو رعاية الشؤون أو ما شاكل ذلك، بل يجب أن تنظر للجميع نظرة واحدة بغض النظر عن العنصر أو الدين أو اللون أو غير ذلك؛ وذلك لعموم أدلة الحكم والقضاء ورعاية الشؤون. فالله تعالى يقول: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ وهو عام لكل الناس مسلمين كانوا أم غير مسلمين، والرسول ﷺ يقول: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وهو عام يشمل المسلم وغير المسلم، ويقول ﷺ: «الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وكلمة "رعيته" عامة تشمل جميع الرعية مسلمين وغير مسلمين. وهكذا جميع الأدلة العامة مما يتعلق بالرعوية تدل على أنه لا يجوز أن يحصل أي تمييز بين المسلم وغير المسلم، ولا بين العربي والعجمي، ولا بين الأبيض والأسود، بل جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية سواء، دون أي تمييز بينهم أمام الحاكم من حيث استحقاق رعاية شؤونه وحفظ دمه وعرضه وماله، وأمام القاضي من حيث التسوية والعدل.
ولا يقال إن هذا الكلام غير واقعي، لسببين:
أولهما: أن مفهومي دار الإسلام والرعوية الإسلامية ظلا مطبقين على أرض الواقع زهاء 13 قرناً؛ وذلك منذ أن أقام الرسول ﷺ الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وحتى هدمها أوائل القرن المنصرم.
فعلى سبيل المثال، ذكر لنا التاريخ أن نصارى بلاد الشام قد أحبوا العيش في ظل الدولة الإسلامية على العيش في ظل الدولة الرومانية، لإدراكهم واستشعارهم عدالة وإنصاف حكم الإسلام، وعبّر عن ذلك قولهم لأبي عبيدة رضي الله عنه عندما أرجع إليهم الجزية التي أخذها لعدم قدرته على الاستمرار في حكم بلادهم، بأنهم يفضلون حكم الإسلام على حكم الرومان.
وبالمناسبة، يقول بعض الفقهاء إن عقد الذمة لازم في حقنا، غير لازم في حقهم، وتفسير ذلك أنه لا يجوز للدولة الإسلامية فسخ العقد مع أهل الذمة ابتداءً، بينما يجوز لهم فسخ العقد والالتحاق بدولة أجنبية.
ثانيهما: أن أحكام الإسلام وتشريعاته جاءت لتعالج الواقع وليس مسايرته أو جعله مصدراً للأحكام. فالواقع من وجهة نظر الإسلام هو موضع التفكير وليس مصدره؛ فإذا كان الحكم الشرعي يحرم موقفاً سياسياً معيناً، فإن ذلك الموقف لا يصبح حلالاً بحجة مسايرة الظروف أو التعايش مع الأمر الواقع. فالذي يحدد الموقف السياسي والعمل السياسي هو الشرع وليس العقل، ولا يتغير موقف المسلم المستند إلى الدليل الشرعي تحت ضغط الأحداث أو مقتضيات الدولة الوطنية العصرية والارتباطات الدولية القانونية.
نعم إن مفاهيم دار الإسلام والرعوية الإسلامية هي مفاهيم أساسية في نظام الحكم الإسلامي، لا بد من بلورتها في الأذهان، ولا بد من التمسك بها والدعوة لها، والعمل على جعل السيادة المطلقة لمبدأ الإسلام، لكي يكون الدين لله وتصبح بلاد المسلمين دارا إسلامية واحدة تأتمر بأمر دولة واحدة، ترفع من بينها الحواجز السياسية والنفسية المصطنعة التي أراد لها الغرب أن تقطع أوصال الأمة الواحدة الكريمة، كما أوصى الجاسوس البريطاني لورنس عندما قال "فإذا تمكنا من التحكم بهم بصورة صحيحة، فإنهم سيبقون منقسمين سياسيا إلى دويلات تحسد بعضها بعضاً لا يمكن لها أن تتحد"!
بقلم: المهندس أسامة الثويني - الكويت
المصدر: جريدة الراية