Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

عندما تنغلق العقول

 

 

 

إن رقي الإسلام وسعته مسألة فريدة مميزة، وقد حرص على بناء المسلم على نحو ينسجم مع طبيعته الرائعة، فجعل من كل من تغلل فيه فكر الإسلام ومفاهيمه شخصية مميزة، تبشر ولا تنفر، تجمع ولا تفرق. على النقيض ممن لم يرتو من فكر الإسلام وثقافته، تجد صدره حرجا ضيقا عن استيعاب غيره ممن يخالفه في بعض التفاصيل أو الاجتهادات.

 

فتجد البعض ممن اقتنع بحرمة شيء معين بناء على أدلة ظنية رآها لدى إمامه، يصبح يناقش ويتصرف ويعامل الآخرين ممن يخالفونه الرأي إلى رأي شرعي آخر، وأقول رأي شرعي آخر وليس رأيا عقليا، يتعامل معهم بنفور وإنكار قد يصل إلى الهجران والقطيعة والتكفير والعياذ بالله.

 

وتجد آخر ممن اقتنع بأحد المحدثين علما وقدرة، يحمل رأي محدثه في حديث لرسول الله ﷺ ولا يستوعب أن هناك محدثين آخرين لهم رأي آخر، ويظن أنه إن قال محدثه بأن الحديث الفلاني ضعيف فهذا يعني أنه ضعيف قولا واحدا بلا خلاف، ويغفل أن هناك غيره من المحدثين بل ومن كبارهم وأوسعهم علما قد قال رأيا آخر بناء على ما اطلع عليه من أحوال الرواة مثلا.

وهكذا الأمثلة كثيرة على الفكرة نفسها، وهي عدم القدرة على استيعاب المخالف مخالفة منضبطة.

 

والحقيقة أن الإسلام فيه سعة ومراعاة لعقول البشر وقدراتهم على الاجتهاد والفهم والتتبع والتدبر، وهذا من رحمة الله تعالى بنا.

 

فتأملوا معي ما حدث مع رسول الله ﷺ وصحابته الكرام في غزوة بني قريظة، فعنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِداً مِنْهُمْ».

 

فهذا درس لنا من رسول الله ﷺ بأن الله يقبل الاختلاف في فهم مراده طالما أن النص يحتمل ذلك، ولو أراد الله ألا يترك لنا مجالا للاختلاف لفعل، تماما كما هو الحال في القطعيات التي لا تحتمل الاختلاف.

 

وكذلك قول رسول الله ﷺ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، الذي يؤكد على عدم وجود بأس في الاختلاف بين المسلمين في المسائل التي تحتمل الاجتهاد والاختلاف.

 

فهذا الإمام أحمد بن حنبل كان تلميذا للإمام الشافعي، رحمهما الله، ثم خالفه في كثير من المسائل حتى أصبحا مدرستين مختلفتين، وكذلك الإمام الشافعي تتلمذ على يد الإمام مالك، ثم خالفه في كثير من المسائل، ولكنهم كلهم كانوا إخوة متحابين لا ينكر أحدهم على الآخر، تلميذا أو إماما، فقهه وآراءه، وكل منهم يقر لأخيه بالفضل والعلم والصلاح.

 

أما عندما انغلقت العقول وانحسر العلم أصبح الاختلاف مدعاة للتكفير والمنازعة والاقتتال، وضاقت الصدور عن استيعاب المسلم لأخيه المسلم، مع أنه يكفي كليهما سلامة المنهج وصدق المقصد.

 

 

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

المهندس باهر صالح

عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

 

 

 

وسائط

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.