- الموافق
- كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح246): نقود الدولة هي الذهب والفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ والأَربَعِينَ بَعْدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "نُقُودُ الدَّولَةِ هِيَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَو غَيرَ مَضْرُوبَةٍ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ التَّاسِعَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ المِائَةِ، وَالثَّلاثِين َبَعْدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 167: نُقُودُ الدَّولَةِ هِيَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَو غَيرَ مَضْرُوبَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَقْدٌ غَيرُهُمَا. وَيَجُوزُ أَنْ تُصْدِرَ الدَّولَةُ بَدَلَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ شَيئاً آخَرَ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي خِزَانَةِ الدَّولَةِ مَا يُسَاوِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ. فَيَجُوزُ أَنْ تُصْدِرَ الدَّولَةُ نُحَاساً أَوِ بُرونْزاً أَوْ وَرَقاً أَو غَيرَ ذَلِكَ، وَتَضْرِبَهُ بِاسْمِهَا نَقْداً لَهَا إِذَا كَانَ لَهُ مُقَابِلٌ يُسَاوِيهِ تَمَاماً مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولاً، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة، أَيُّهَا المُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا المُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا، وَهَذِهِ هِيَ الْمَادَّةُ السَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ المِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ المَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
الإِسْلَامُ حِينَ قَرَّرَ أَحْكَامَ البَيعِ وَالإِجَارَةِ لَـمْ يُعَيِّنْ لِمُبَادَلَةِ السِّلَعِ أَوْ لـمُبَادَلَةِ الجُهُودِ وَالمَنَافِعِ شَيئاً مُعَيَّناً تَجْرِي المُبَادَلَةُ عَلَى أَسَاسِهِ فَرْضاً، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ لِلإِنْسَانِ أَنْ يُجْرِيَ المُبَادَلَةَ بِأَيِّ شَيءٍ مَا دَامَ التَّرَاضِي مَوْجُوداً فِي هَذِهِ المُبَادَلَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِتَعْلِيمِهَا الخِيَاطَةَ، وَيـَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ سَيَّارَةً بِالاشتِغَالِ فِي المَصْنَعِ شَهْراً، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عِندَ شَخْصٍ بـمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ السُّكَّرِ، وَهَكَذَا أَطْلَقَ الشَّرعُ المُبَادَلَةَ لِبَنِي الإِنْسَانِ بـمَا يُرِيدُونَ مِنَ الأَشْيَاءِ. بِدَلِيلِ عُمُومِ أَدِلَّةِ البَيعِ وَأَدِّلَّةِ الإِجَارَةِ: قَالَ تَعَالَى: (وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ). (البقرة 275) أَطْلَقَ البَيعَ لِأَيِّ شَيءٍ بِأَيِّ شَيءٍ، وَفِي الحَدِيثِ قَالَ r: «أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ». (أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه)، أَيْ أَنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ، أَيّاً كَانَ نَوعُ هَذَا الأَجْرِ.
وَأَيْضاً فَإِنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ الَّتِي يَجْرِي التَّبَادُلَ بِهَا لَيْسَتْ أَفْعَالاً حَتَّى يَكُونَ (الأَصْلُ فِي الأَفْعَالِ التَّقَيُّدُ بِالشَّرْعِ)، فَتَحْتَاجَ إِبَاحَتُهَا إِلَى دَلِيلٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَشْيَاءُ. وَ(الأَصْلُ فِي الأَشْيَاءِ الإِبَاحَةُ مَا لَمْ يَرِدْ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ)، وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يُحَرِّمُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ، وَعَلَيهِ فَيَجُوزُ إِجْرَاءُ المُعَامَلَاتِ الشَّرعِيَّةِ عَلَيهَا بَيْعاً وَشِرَاءً، وَهِبَةً، وَمُبَادَلَةً... إِلَّا مَا وَرَدَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ التَّبَادُلِ فِيهِ. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ مُبَادَلَةَ السِّلْعَةِ بِنَقْدٍ، وَالنَّقْدِ بِسِلْعَةٍ كَذَلِكَ مُبَاحَةٌ مُطْلَقاً، إِلَّا مُبَادَلَةَ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ فَلَهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ، فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِتِلْكَ الأَحْكَامِ. وَكَذَلِكَ مُبَادَلَةُ الجُهْدِ بِنَقْدٍ، وَالنَّقْدِ بِجُهْدٍ مُبَاحَةٌ مُطْلَقاً، إِلَّا السِّلَعَ أَوِ الجُهُودِ الَّتِي وَرَدَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهَا.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ مُبَادَلَةَ السِّلْعَةِ بِوِحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّقْدِ، وَكَذَلِكَ مُبَادَلَةُ الجُهْدِ بِوِحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّقْدِ مُبَاحَةٌ أَيْضاً مُطْلَقاً أَيّاً كَانَتْ هَذِهِ الوِحْدَةُ النَّقْدِيَّةُ. فَسَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الوِحْدَةُ لَيسَ لَهَا مُقَابِلٌ مُطْلَقاً كَالنُّقُودِ الوَرَقِيَّةِ الإِلْزَامِيَّةِ، أَمْ كَانَتْ هَذِهِ الوِحْدَةُ لَهَا مُقَابِلٌ نِسْبَةً مُعَيَّنَةً مِنَ الذَّهَبِ كَالنُّقُودِ الوَرَقِيَّةِ الوَثِيقَةِ، أَمْ كَانَتْ هَذِهِ الوِحْدَةُ لَهَا مُقَابِلٌ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ مُسَاوٍ لِقِيمَتِهَا تَمَاماً كَالنُّقُودِ الوَرَقِيَّةِ النَّائِبَةِ، فَكُلُّهَا يَصِحُّ فِيهَا التَّبَادُلُ. وَلِهَذَا تَصِحُّ مُبَادَلَةُ السِّلْعَةِ أَوِ الجُهْدِ بِأَيَّةِ وِحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّقْدِ. فَيَصِحُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبِيعَ بِأَيِّ نَقْدٍ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِأَيِّ نَقْدٍ، وَأَنْ يَسْتَأْجِرَ بِأَيِّ نَقْدٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَجِيراً بِأَيِّ نَقْدٍ.
إِلَّا أَنَّ الدَّوُلَةَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَجْعَلَ لِلبِلَادِ الَّتِي تَحْكُمُهَا وِحْدَةً مُعَيَّنَةً مِنَ النَّقْدِ تُنَفِّذُ الأَحْكَامَ الشَّرعِيَّةَ المُتَعَلِّقَةَ بِالمَالِ مِنْ حَيثُ هُوَ مَالٌ كَالزَّكَاةِ وَالصَّرْفِ وَالرِّبَا وَغَيرِ ذَلِكَ، أَوِ الأَحْكَامَ المُتَعَلِّقَةَ بِالشَّخْصِ المَالِكِ لِلمَالِ كَالدِّيَةِ، وَمِقْدَارِ السَّرِقَةِ، وَغَيرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُطْلَقَةَ اليَدِ تَجْعَلُ أَيَّةَ وِحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّقْدِ، بَلْ هِيَ مُلَزَمَةٌ بِوِحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّقْدِ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَجْعَلَ غَيرَهَا، وَلَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ. فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ عَيَّنَ وِحْدَةً مُعَيَّنَةً مِنَ النَّقْدِ فِي جِنْسٍ مُعَيَّنٍ جَاءَ النَّصُّ عَلَيهِ أَلَا وَهُوَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ. فَإِذَا أَرَادَتِ الدَّوْلَةُ أَنْ تُصْدِرَ نَقْداً فَإِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا النَّقْدُ هُوَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ لَيْسَ غَيْر. فَالشَّرْعُ لَمْ يَتْرُكْ لِلدَّولَةِ أَنْ تُصْدِرَ النَّقْدَ الَّذِي تُرِيدُهُ مِنْ أَيِّ نَوعٍ تَشَاءُ، وَإِنَّمَا عَيَّنَ الوِحْدَاتِ النَّقْدِيَّةَ الَّتِي لِلدَّولَةِ أَنْ تَجْعَلَهَا نَقْداً لَهَا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُصْدِرَ نَقْداً بِوِحْدَاتٍ نَقْدِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ لَيسَ غَيرْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الإِسْلَامَ رَبَطَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ بِأَحْكَامٍ ثَابِتَةٍ لَا تَتَغَيَّرُ. فَحِينَ فَرَضَ الدِّيَةَ عَيَّنَ لَهَا مِقْدَاراً مُعَيَّناً مِنَ الذَّهَبِ، وَحِينَ أَوْجَبَ القَطْعَ فِي السَّرِقَةِ عَيَّنَ المِقْدَارَ الَّذِي يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنَ الذَّهَبِ، قَالَ r فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَى أَهْلِ اليَمَنِ: «وَأَنَّ فِي النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِاْئَةٍ مِنَ الإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرَقِ أَلْفُ دِينَارٍ». ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي المُغْنِي عَمَّا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ مِنْ كِتَابِ رَسُولِ اللهِ r إِلَى أَهْلِ اليَمَنِ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِي عَنْ كِتَابِ رَسُولِ اللهِ r إِلَى أَهْلِ اليَمَنِ: «وعلى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ بَدَلَ أَهْلِ الوَرِقِ». وَقَالَ r: «لا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً». (أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ رضي الله عنها). فَهَذَا التَّحْدِيدُ لِأَحْكَامٍ مُعَيَّنَةٍ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالمِثْقَالِ يَجْعَلُ الدِّينَارَ بِوَزْنِهِ مِنَ الذَّهَبِ، وَالدِّرْهَمَ بِوَزْنِهِ مِنَ الفِضَّةِ وِحْدَةً نَقْدِيَّةً تُقَاسُ بِهَا قِيَمُ الأَشْيَاءِ وَالجُهُودِ. فَتَكُونَ هَذِهِ الوِحْدَةُ النَّقْدِيَّةُ هِيَ النَّقْدَ، وَهِيَ أَسَاسَ النَّقْدِ.
فَكَونُ الشَّرْعِ رَبَطَ الأَحْكَامَ الشَّرعِيَّةَ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ نَصّاً حِينَ تَكُونُ هَذِهِ الأَحْكَامِ مُتَعَلِّقَةً بِالنَّقْدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّقْدَ إِنَّمَا هُوَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ لَيسَ غَيرْ. وَأَيْضاً فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ أَوجَبَ زَكَاةَ النَّقْدِ أَوجَبَهَا فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ لَيسَ غَيرْ، وَعَيَّنَ لَهَا نِصَاباً مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ. فَاعْتِبَارُ زَكَاةِ النَّقْدِ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ يُعَيِّنُ أَنَّ النَّقْدَ هُوَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ.
وَأَيْضاً فَإِنَّ أَحْكَامَ الصَّرْفِ الَّتِي جَاءَتْ فِي مُعَامَلَاتِ النَّقْدِ فَقَطْ إِنَّمَا جَاءَتْ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَحْدَهُمَا، وَجَمِيعُ المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الإِسْلَامِ إِنَّمَا جَاءَتْ عَلَى الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ. وَالصَّرْفُ بَيعُ عُمْلَةٍ بِعُمْلَةٍ، إِمَّا بَيعُ عُمْلَةٍ بِالعُمْلَةِ نَفْسِهَا، وَإِمَّا بَيعُ عُمْلَةٍ بِعُمْلَةٍ أُخْرَى، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى الصَّرْفُ بَيعُ نَقْدٍ بِنَقْدٍ.
فَتَعْيِينُ الشَّرْعِ لِلصَّرفِ، وَهُوَ مُعَامَلَةٌ نَقْدِيَّةٌ بَحْتَةٌ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَحْدَهُمَا دُونَ غَيرِهِمَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ النَّقْدَ يَجبُ أَنْ يَكُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ لَا غَيرَ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ». (أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرَةَ)، وَأَخْرَجَ مُسْلِمُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِباً إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ». (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ مِنْ طَرِيقِ عُمَر).
وَفَوقَ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّسُولَ r قَدْ عَيَّنَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ نَقْداً، وَجَعَلَهُمَا وَحْدَهُمَا المِقْيَاسَ النَّقْدِيَّ الَّذِي يَرجِعُ إِلَيهِ مِقْيَاسُ السِّلَعِ وَالجُهُودِ. وَعَلَى أَسَاسِهِمَا كَانَتْ تَجْرِي المُعَامَلَاتُ. وَجَعَلَ المِقْيَاسَ لِهَذَا النَّقْدِ الأُوْقِيَّةَ، وَالدِّرْهَمَ، وَالدَّانِقَ، وَالقِيرَاطَ، وَالمِثْقَالَ، وَالدِّينَارَ. وَكَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا مَعْرُوفَةً وَمَشْهُورَةً فِي زَمَنِ النَّبِيِّ r يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ. وَالثَّابِتُ أَنَّهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهَا. وَكَانَتْ تَقَعُ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ جَمِيعُ البُيُوعِ وَالأَنْكِحَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَكَونُ الرَّسُولِ جَعَل َالنَّقْدَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ، وَكَونَ الشَّرعِ قَد رَبَطَ بَعْضَ الأَحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ بِهِمَا وَحْدَهُمَا، وَجَعَلَ الزَّكَاةَ النَّقْدِيَّةَ مَحْصُورَةً بِهِمَا، وَحَصَرَ الصَّرْفَ وَالمُعَامَلَاتِ المَالِيَّةَ بِهِمَا؛ كُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ نَقْدَ الإِسْلَامِ إِنَّمَا هُوَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ لَيسَ غَيرْ.
غَيرَ أَنَّهُ يَجبُ أَنْ يَكُونَ وَاضِحاً أَنْ كَونَ الشَّرعِ قَدْ عَيَّنَ النَّقْدَ الَّذِي تُصْدِرُهُ الدَّولَةُ بِوِحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّقْدِ هِيَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ لَا يَعْنِي أَنَّ الدَّولَةَ تُقَيِّدُ المُبَادَلَاتِ بَينَ النَّاسِ فِي البِلَادِ الَّتِي تَحْكُمُهَا بِهَذَا النَّقْدِ، بَلْ يَعْنِي أَنَّ الأَحْكَامَ الشَّرعِيَّةَ الَّتِي عَيَّنَ الشَّرْعُ فِيهَا النَّقْدَ بِوِحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا تَجْرِي هَذِهِ الأَحْكَامُ إِلَّا بِحَسَبِ هَذَا النَّقْدِ.
أَمَّا المُبَادَلَاتُ فَتَبْقَى مُبَاحَةً كَمَا جَاءَ الشَّرعُ بِهَا. وَلَا يَحِلُّ تَقْيِيدُهَا مِنْ قِبَلِ الدَّولَةِ بِوِحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَيْ لَا يَحِلُّ لَهَا تَقْيِيدُهَا بِنَقْدِهَا وَلَا بِغَيرِهِ. لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ هُوَ تَحْرِيمٌ لِمُبَاحٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَحِلُّ لِلدَّولَةِ أَنْ تَفْعَلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا رَأَتِ الدَّولَةُ أَنَّ إِبَاحَةَ نَقْدٍ غَيرِهِ فِي البِلَادِ الَّتِي تَحْتَ سُلْطَانِهَا يُؤَدِّي إِلَى ضَرْبِ نَقْدِهَا، أَوْ ضَرْبِ مَالِيَّتِهَا، أَوْ ضَرْبِ اقتِصَادِهَا، أَيْ يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرٍ، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَمْنَعُهُ عَمَلاً بِقَاعِدَةِ: (الوَسِيلَةِ إِلَى الحَرَامِ حَرَامٌ)، وَكَذَلِكَ إِذَا رَأَتْ نَقْداً مُعَيَّناً يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ ذَلِكَ النَّقْدَ عَمَلاً بِقَاعِدَة: (كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الشَّيءِ المُبَاحِ إِذَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرٍ يـَحْرُمُ ذَلِكَ الفَرْدُ، وَيَبْقَى الشَّيءُ مُبَاحاً)، وَيُطَبَّقُ ذَلِكَ أَيضاً عَلَى إِخْرَاجِ نَقْدِ الدَّولَةِ مِنَ البِلَادِ، وَعَلَى إِدْخَالِ النَّقْدِ الأَجْنَبِيِّ وَإِخْراجِهِ مِثْلَ مَا طُبِّقَ عَلَى التَّعَامُلِ بِهِ دَاخِلَ البِلَادِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.