- الموافق
- كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح247): يمنع فتح المصارف منعاً باتاً، ولا يكون إلا مصرف الدولة، ولا يتعامل بالربا
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّابِعَةِ والأَربَعِينَ بَعْدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "يُمْنَعُ فَتْحُ المَصَارِفِ مَنْعاً بَاتاً، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَصْرِفُ الدَّولَةِ، وَلَا يُتَعَامَلُ بِالرِّبَا". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الثَّلَاثِينَ بَعْدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 168: الصَّرفُ بَينَ عُمْلَةِ الدَّولَةِ، وَبَينَ عُمْلَاتِ الدُّوَلِ الأُخْرَى جَائِزٌ كَالصَّرْفِ بَينَ عُمْلَتِهَا هِي سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَفَاضَلَ الصَّرفُ بَينَهُمَا إِذَا كَانَا مِنْ جِنْسَينِ مُخْتَلِفَينِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُونَ يَداً بِيَدٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَسِيئَةً. وَيُسْمَحُ بِتَغْيِيرِ سِعْرِ الصَّرْفِ دُونَ أَيِّ قَيدٍ مَا دَامَ الجِنْسَانَ مُختَلِفَينِ. وَلِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الرَّعِيَّةِ أَنْ يَشْتَرِيَ العُمْلَةَ الَّتِي يُرِيدُهَا مِنَ الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا دُونَ أَيِّ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنٍ عُمْلَةً أَوْ غَيرَهُ.
المادة 169: يُمْنَعُ فَتْحُ المَصَارِفِ مَنْعاً بَاتاً، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَصْرِفُ الدَّولَةِ، وَلَا يُتَعَامَلُ بِالرِّبَا، وَيَكُونُ دَائِرَةً مِنْ دَوَائِرِ بَيتِ المَالِ. وَيَقُومُ بِإِقْرَاضِ الأَمْوَالِ حَسَبَ أَحْكَامِ الشَّرعِ، وَبِتَسْهِيلِ المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ وَالنَّقْدِيَّةِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولاً، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة، أَيُّهَا المُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا المُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا، وَهَاتَانِ هُمَا الْمَادَّتَانِ: الثَّامِنَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ المِائَةِ، وَالتَّاسِعَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ المِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ المَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
أولا: المادة 168: دَلِيلُهَا قَولُهُ r: «وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ». (رَوَاهُ البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرَةَ). وعَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّهُ قَالَ أَقْبَلْتُ أَقُولُ: مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَرِنَا ذَهَبَكَ ثُمَّ ائْتِنَا إِذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِكَ وَرِقَكَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَلاّ وَاللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: «الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رِباً إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ». (أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ).
وَرُوِيَ أَنَّ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ كَانَا شَرِيكَينِ، فَاشْتَرَيَا فِضَّةً بِنَقْدٍ وَنَسِيئَةٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ r فَأَمَرَهُمَا: «أَنَّ مَا كَانَ بِنَقْدٍ فَأَجِيزُوهُ، وَمَا كَانَ بِنَسِيئَةٍ فَرُدُّوهُ». (رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي المِنْهَالِ)، وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا المِنْهَالِ عَنِ الصَّرْفِ يَداً بِيَدٍ فَقَالَ:"اشْتَرَيتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِي شَيئاً يَداً بِيَدٍ، وَنَسِيئَةً، فَجَاءَنَا البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِي زَيدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَأَلْنَا النَّبِيَّ r عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «أَنَّ مَا كَانَ بِنَقْدٍ فَأَجِيزُوهُ، وَمَا كَانَ ِنَسِيئَةً فَرُدُّوهُ». أَيْ هُمَا كَانَا صَرَّافِينَ.
فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّرْفِ. وَهُوَ يَجْرِي فِي المُعَامَلَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ كَمَا يَجْرِي فِي المُعَامَلَاتِ الخَارِجِيَّةِ، فَكَمَا يُسْتَبْدَلُ الذَّهَبُ بِالفِضَّةِ، وَالفِضَّةُ بِالذَّهَبِ مِنْ نَقْدِ البَلَدِ، فَكَذَلِكَ يُسْتَبْدَلُ النَّقْدُ الأَجْنَبِيُّ بِنَقْدِ البَلَدِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي دَاخِلِ البِلَادِ أَمْ فِي خَارِجِهَا، وَحِينَ يَجْرِي الصَّرْفُ بَينَ عُمْلَتَينِ مُخْتَلِفَتَينِ يَكُونُ بَينَهُمَا فَرْقٌ يُسَمَّى سِعْرَ الصَّرفِ. فَسِعْرُ الصَّرْفِ هُوَ النِّسْبَةُ بَينَ وَزْنِ الذَّهَبِ الصَّافِي فِي عُمْلَةِ دَولَةٍ، وَوَزْنِ الذَّهَبِ الصَّافِي فِي عُمْلَةِ دَولَةِ أُخْرَى.
وَلِهَذَا تَجِدُ سِعْرَ الصَّرْفِ يَتَغَيَّرُ تَبَعاً لِتَغَيُّرِ هَذِهِ النِّسْبَةِ، وَتَبَعاً لِتَغَيُّرِ سِعْرِ الذَّهَبِ فِي البُلْدَان. وَتَنطَبِقُ أَحْكَامُ الصَّرفِ بَينَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ عَلَى النَّقْدِ الوَرَقِيِّ الحَالِيِّ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ (النَّقْدِيَّةِ وَالثَّمَنِيَّةِ) مُتَوَفِّرَةٌ فِيهِ لِإِلْزَامِ قَانُونِ الدَّولَةِ التَّعَامُلَ النَّقْدِيَّ بِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَادِيثَ الصَّرْفِ قَدْ وَرَدَتْ فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ كَأَسْمَاءِ جِنْسٍ، وَهَذِهِ لَا مَفْهُومَ لَـهَا، وَلَا يُقَاسُ عَلَيهَا، وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ فِي النَّقْدِ المَضْرُوبِ: الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَهَذِهِ يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا عِلَّةُ (النَّقْدِيَّةِ) أَيْ استِعْمَالُهَا أَثْمَاناً وَأُجُوراً فَيُقَاسُ عَلَيهَا. فَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَوسٍ السَّابِقِ أَنَّهُ كَانَ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمُ لَفْظٌ مُفْهِمٌ (لِلنَّقْدِيَّةِ).
وَعَلَيهِ فَمَا يَنْطَبِقُ عَلَى الصَّرْفِ بَينَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ يَنْطَبِقُ عَلَى الصَّرْفِ بَينَ النُّقُودِ الوَرَقِيَّةِ الإِلْزَامِيَّةِ بِقَانُونِ الدُّوَلِ الحَالِيَّةِ، أَيْ أَنَّ الصَّرْفَ بَينَ الجِنْسِ الوَاحِدِ مِنْهَا يَجبُ أَنْ يَكُونَ هاءً بِهَاءٍ، وَمِثْلاً بـمِثْلٍ، وَالصَّرُفُ بَينَ الجِنْسَينِ المُخْتَلِفَينِ مِنْهَا يَجبُ أَنْ يَكُونَ هَاءً بِهَاءٍ، وَلَكِنْ كَيَفَ شِئْتُمْ مِنْ حَيثُ السِّعْرِ بَينَ الجِنْسَينِ. وَالحُكْمُ الشَّرعِيُّ فِي سِعْرِ الصَّرْفِ أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَلَا يُقَيَّدُ بِأَيِّ قَيدٍ، فَإِنَّ الصَّرْفَ مُبَاحٌ، وَكَذَلِكَ سِعْرُ الصَّرْفِ مُبَاحٌ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَشْتَرِيَ العُمْلَةَ الَّتِي يُرِيدُهَا بِالسِّعْرِ الَّذِي يُرِيدُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي دَلِيلِ إِبَاحَةِ الصَّرْفِ. وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ هَذِهِ المَادَّةِ مِنْ إِبَاحَةِ الصَّرْفِ، وَإِبَاحَةِ تَغَيُّرِ سِعْرِهِ.
ثانيا: المادة 169: أَظْهَرُ أَعْمَالِ المَصْرِفِ ثَلَاثَةٌ هِيَ: مُعَامَلَاتُ الرِّبَا كَالسَّنَدَاتِ وَالاعتِمَادَاتِ، وَمُعَامَلَاتِ التَّحْوِيلِ كَالشِّيكَاتِ، وَمُعَامَلَةِ الأَمَانَاتِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمُعَامَلَاتِ التَّحْوِيلِ وَالأَمَانَاتِ فَإِنَّهَا جَائِزَةُ شَرْعاً، وَدَلِيلُهَا أَدِلَّةُ الحِوَالَة، وَأَدِلَّةُ الأَمَانَةِ. فَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَفْتَحَ مَصْرِفاً يُشْغِّلُهُ بـمُعَامَلَاتِ التَّحْوِيلِ وَالأَمَانَاتِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ جَائِزٌ شَرْعاً كَمُعَامَلَاتِ الصَّرْفِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فَتْحُ مِثْلِ هَذَا اـمَصْرِفِ حَرَاماً، وَالحَرَامُ إِنَّمُا هُوَ البَنْكُ الَّذِي يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا. وَلَكِنَّ هَذِه المُعَامَلَاتِ لَا تَأْتِي بِأَرْبَاحٍ كَبِيرَةٍ أَوْ أَرْبَاحُهَا لَا تُسَاعِدُ إِلَّا عَلَى فَتْحِ مَا يُشْبِهُ مَحِلَّاتِ الصَّرافِينَ فَقَطْ.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْتَحَ المَرءُ بِهَا مَصْرِفاً (بَنْكاً) لِعَدَمِ كِفَايَةِ مَا يَرْبَحُ مِنْهَا لِفَتْحِهِ؛ لِأَنَّ أَرْبَاحَ التَّحْوِيلِ وَالأَمَانَاتِ، وَأَرْبَاحَ مُعَامَلَاتِ الصَّرْفِ أَرْبَاحٌ زَهِيدَةٌ جِدّاً إٍلَى جَانِبِ أَرْبَاحِ الرِّبَا، وَالأَرْبَاحُ الكَبِيرَةُ إِنَّـمَا هِيَ الأَرْبَاحُ الَّتِي يُسْتَثْمَرُ فِيهَا المَالُ بِمُعَامَلَاتِ الرِّبَا، فَتِلْكَ هِيَ الَّتِي تَسْتَثْمِرُ المَالَ استِثْمَاراً مُرْبِحاً، وَلِذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى أَنْ تَكْفِي أَرْبَاحُ الحِوَالَاتِ، وَالأَمَانَاتِ، وَمُعَامَلَاتِ الصَّرْفِ لِفَتْحِ مَصَارِفَ (بُنُوك) بِمَدْلُولِهَا كَمَا هُوَ وَاقِعٌ اليَومَ فِي العَالَمِ، وَإِنَّمَا تَكْفِي لِفَتْحِ مَحِلَّاتٍ مَحُدُودَةِ العَمَلِ كَمَحَلَّاتِ الصَّرَافِينَ، وَهَذِهِ لَا يَنْطَبِقُ عَلَيهَا وَاقِعُ (البُنُوكِ) المَعْرُوفِ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَتَّى فَتْحُ المَصْرِفِ (البَنْكِ) إِلَّا بِمُعَامَلَاتِ الرِّبَا، وَالمَصْرِفُ (البَنْكُ) إِنَّمَا يُفْتَحُ لِمُعَامَلَاتِ الرِّبَا، وَالرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ القُرآنِ القَطْعِيِّ: قَالَ تَعَالَى: (وَحَرَّمَ الرِّبَا). (البَقَرَة 275) وَلِذَلِكَ كَانَ فَتْحُ المَصْرِفِ (البَنْكِ) بِمَدْلُولِهِ المَعْرُوفِ حَرَاماً.
إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الإِقْرَاضُ مُبَاحاً إِبَاحَةً مُطْلَقَةً لِقَولِ الرَّسُولِ r: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِماً قَرْضاً مَرَّتَيْنِ إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً». (أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ طَرِيقِ عَبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه) وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوباً: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: لأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ». (أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه).
وَلَمَّا كَانَتِ الوَدَائِعُ مُبَاحَةً كَذَلِكَ لِقَولِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا). (النساء 58) وقال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ). (البقرة 283) وَقَولِهِ r: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ». (أَخْرَجَهُ التِّرمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ).
وَقَدْ رُوِيَ عَنهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَّهُ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدَائِعُ، فَلَمَّا أَرَادَ الهِجْرَةَ أَوْدَعَهَا عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ، وَأَمَرَ عَلِيّاً أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا». أَوْرَدَهُ ابنُ قُدَامَةَ فِي المُغْنِي. وَلَمَّا كَانَتِ الحِوَالَةُ مُبَاحَةً لِقَولِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ». (أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ وَأَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ بِلَفْظ "مَلِيٍّ" بَدَلَ "مَلِيءٍ"). وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: «وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ».
لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ المَعُامَلَاتُ الثَّلَاثُ الَّتِي يَقُومُ بِها البَنْكُ جَائِزَةً شَرْعاً، وَالمُحَرَّمُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ أَخْذُ رِباً عَلَى القَرْضِ، وَ(البَنْكُ) لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْتَحَ وَيَشْتَغِلَ إِلَّا بِالرِّبَا، لِذَلِكَ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَوفِيرِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ دُونَ رِباً. إِذْ قَدْ أَصْبَحَ مِنْ مَصَالِحِ النَّاسِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ عَلَى الدَّولَةِ أَنْ تَفْتَحَ مَصْرِفاً كَفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ بَيتِ المَالِ، يَقُومُ بِهَذِهِ العَمَلِيَّاتِ الثَّلَاثِ: الحِوَالَاتِ، وَالأَمَانَاتِ، وَمُعَامَلَاتِ الصَّرْفِ والإقراض حَسَبَ رَأْيِ الإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّهَا مِنَ المُبَاحَاتِ الَّتِي تَجْرِي رِعَايَةُ الشُّؤُونِ فِيهَا حَسَبَ رَأْيِ الإِمَامِ وَاجتِهَادِهِ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلاً عَلَى فَتْحِ الدَّولَةِ لِمَصْرِفٍ يَقُومُ بِقَضَاءِ مَصَالِحِ النَّاسِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.