الإثنين، 21 جمادى الثانية 1446هـ| 2024/12/23م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط الحلقة السابعة عشر صقر قريش وثورة العباسيين

بسم الله الرحمن الرحيم

 

حياكم الله مستمعينا الكرام، مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير، ونحييكم بتحية السلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونكمل معكم سلسلة الأندلس، وحديثنا اليوم سيكون عن صقر قريش وثورة العباسيين.


في سنة ست وأربعين ومائة من الهجرة، أي بعد حوالي ثمان سنوات من تولي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس، كان هناك ثورة حدثت على يد رجل يُدعى العلاء بن مغيث الحضرمي.


كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (وهو الخليفة العباسي الثاني أو المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح) قد راسل العلاء بن مغيث الحضرمي كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية، ومن ثم يضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية.


وبالنسبة لأبي جعفر المنصور فهذا يعد أمرا طبيعيا بل شرعياً فهو امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" إذ يريد ضم بلاد الأندلس- وهي البلد الوحيد المنشق من بلاد المسلمين - إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي وعبر بلاد الأندلس، ثم قام بثورة ينادي فيها بدعوة العباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور.


لم يتوان عبد الرحمن الداخل، فقامت لذلك حرب كبيرة جدا بين العلاء بن مغيث الحضرمي وعبد الرحمن بن معاوية، وكعادته في قمع الثورات انتصر عليه عبد الرحمن بن معاوية، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور، وكان في الحج بأن عبد الرحمن الداخل قد هزم جيش العلاء الحضرمي هزيمة منكرة، وأن العلاء بن مغيث الحضرمي قد قُتل.


وهنا قال أبو جعفر المنصور قتلنا هذا البائس - يعني العلاء بن مغيث الحضرمي- يريد أنه قتله بتكليفه إياه بحرب عبد الرحمن بن معاوية، ثم قال ما لنا في هذا الفتى من مطمع (يعني عبد الرحمن بن معاوية)، الحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر.


ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر لحظة واحدة في استعادة بلاد الأندلس، بل إن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمّى عبد الرحمن بن معاوية بصقر قريش الذي اشتهر به بعد ذلك، كان أبو جعفر المنصور جالسا مع أصحابه فسألهم أتدرون من هو صقر قريش؟ فقالوا له كعادة البطانة السوء بالتأكيد هو أنت، فقال لهم لا، فعدّدوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان من بني أمية فقال أيضا لا. ثم أجابهم قائلا بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفردا بنفسه، مؤيّدا برأيه، مستصحبا لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدا أعجميا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه. وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبا جدا بعبد الرحمن بن معاوية، وهو ما يمكن أن نسميه إعجاب اضطرار، أو إعجاب فرض نفسه.


قضية الانفصال الطويل الذي دام بين دولة الأندلس وبين الخلافة العباسية على مر العصور تثير في نفوسنا وفي نفوس جميع المسلمين تساؤلات عدة، لماذا يحاول عبد الرحمن بن معاوية الرجل الورع التقي الذي أقام دولة قوية جدا في بلاد الأندلس، لماذا يحاول بل وينفصل بالكلية عن الخلافة العباسية؟!
ووقفة عادلة مع هذا الحدث وتحليله واستجلاء غوامضه نستطيع القول بأن الدولة العباسية قد أخطأت خطئا فاحشا بحق الأمويين، وذلك بقتلهم وتتبعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، فإذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقوا الاستبدال فليكن تغييرهم، وليكن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.


كان من المفترض على الدولة العباسية القائمة على أنقاض الأمويين أن تحتوي هذه الطاقات الأموية، وتعمل على توظيفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلا من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صقع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو في غيرها من بلاد المسلمين.


كان من المفترض ألا تُفْرط الدولة العباسية في قتل المسلمين من بني أمية وهي تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِءٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ. كما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.


ما المانع من أن تقيم الحد على من يستحق أن يُقتل من بني أمية ثم تترك وتستوعب الآخرين.


وما المانع من أن تعطي الدولة العباسية بني أمية بعضا من الملك، مثل إمارة مدينة أو إمارة ولاية، وهؤلاء كانوا خلفاء وأبناء خلفاء؛ حتى تستوعبوهم في داخل الصف.


فهذا عبد الرحمن الداخل الذي نتحدث عنه يصيح في اليمنيين بعد موقعة المسارة ويقول لهم حين أرادوا أن يتتبعوا الفارين من جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري اتركوهم لا تتبعوهم، ليضمهم إلى جيشه بعد ذلك، فهكذا كان يجب على العباسيين أن يفعلوا، ويتركوا الأمويين يدخلون تحت عباءتهم حتى يستطيعوا أن يكونوا لهم جندا وعونا لا نِدّا ومنافسا، كما رأينا النتيجة بأعيننا.


وهذا أيضا المثل الأعلى والقدوة الحسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا فعل بعد أن دخل مكة وكان أهلها قد آذوه هو وأصحابه وطردوهم منها، وماذا قال عن أبي سفيان وهو من هو قبل ذلك؟ ما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن دخل متواضعا وقال من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن. أليس أبو سفيان هذا كان زعيم الكفر وزعيم المشركين في أحد والأحزاب؟! فلماذا إذن يقول عنه صلى الله عليه وسلم مثل هذا؟! إنما كان يريد صلى الله عليه وسلم أن يخطب وده ويضمه إلى صفه، وبالمثل فعل صلى الله عليه وسلم مع رؤوس الكفر في مكة حين قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟" فقالوا خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فرد عليهم صلى الله عليه وسلم بمقولته التي وعاها التاريخ اذهبوا فأنتم الطلقاء.


وليس هذا فقط من كرم الأخلاق، ولكنه أيضا من فن معاملة الأعداء، وحسن السياسة والإدارة، فلنتخيل ماذا سيكون الموقف لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحد وقطع رؤوس هؤلاء الذين حاربوا دين الله سنوات وسنوات؟! بلا شك كان سيُحدث جيبا من الجيوب داخل مكة، وكان أهل مكة سينتهزون الفرصة تلو الفرصة للانقلاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وللانفصال عن الخلافة الإسلامية.


هكذا لو فعل العباسيون واستوعبوا الأمويين في داخل الدولة العباسية. ولأنهم لم يفعلوا فكان أن اضطر الأمويون اضطرارا إلى الذهاب إلى هذه البلاد والانشقاق بها عن دولة المسلمين.


وواقع الأمر يقول أنه لو كان عبد الرحمن بن معاوية يضمن أن العلاء بن مغيث الحضرمي سوف يعفي عنه ويعطيه إمارة الأندلس، أو أي إمارة أخرى من إمارات الدولة العباسية إذا سلّم الأمر إليه لفعل، لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه سيقتل في الحال هو ومن معه من الأمويين إن كانوا مرشحين للخلافة، وهذا بالطبع ما دفعه لأن يحاول مرة ومرتين وثالثة لأن يبقى على عهده من القتال ضد الدولة العباسية، وهو أمر مؤلم جدا وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون نتيجة العنف الشديد من قبل الدولة العباسية في بدء عهدها.


ولا شك أن الدولة العباسية قد غيّرت كثيرا من نهجها الذي اتبعته أولا، وتولى بعد ذلك رجال كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي، بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهده كان قد غير ما بدأه بالمرة، لكن كانت هناك قسوة شديدة بهدف أن يستتب لهم الأمر في البلاد.


فمن يحاول أن يتذاكى على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فستكون العاقبة دائما هي الخسران، وهكذا كان فقْد المسلمين لأرواح طاهرة ودماء كثيرة وطاقات متعددة، بل فقدوا الأندلس فلم تعد مددا للمسلمين طيلة عهدها، فالعنف في غير محله لا يورث إلا عنفا، وطريق الدماء لا يورث إلا الدماء، والسبل كثيرة، ولكن ليس إلا من سبيل واحد فقط، إنه الطريق المستقيم [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {الأنعام153} .

 

كتبته : أم سدين

 

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع