- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
إدارة الدولة والعلاقات الدولية بمنطق "المافيا"؛ وترامب اليوم هو عَرَّابُها!
عندما تفلس المنظومات الفكرية يترجم إفلاسها فشلا حضاريا وكارثة سياسية، فيأخذ طريقه إلى الدولة ومؤسساتها وسياستها فينعكس على الداخل ومجتمعه والخارج وسياسته الدولية.
وما جرى في البيت الأبيض من تلاسن حاد مهين بين الرئيسين الأمريكي ترامب والأوكراني زيلينسكي ينبئ عن حجم كارثة المنظومة الرأسمالية والوضع المخزي الذي وصلت إليه. علما أن ترامب كان قد صرح للصحفيين في وقت سابق، أنه وزيلينسكي سيوقعان الاتفاق الذي اقترحته أمريكا بشأن معادن أوكرانيا، والذي وصفه بأنه اتفاق "عادل للغاية"، وقال إنه يثمّن هذا الاتفاق الخاص بالمعادن "لأننا نحتاج ما يمتلكونه... بلادنا الآن تلقى معاملة عادلة... دافع الضرائب الأمريكي يجب أن يُصان حقه.. كل ما كانوا يتحدثون عنه هو الأمن، أما أنا فقلت دعونا نُبرم صفقة أولاً". كما أن زيلينسكي عبر عن آماله في أن يؤدي اتفاق "مبدئي" مع أمريكا إلى مزيد من الاتفاقات. وكشف رئيس وزرائه دينيس شميهال عن الانتهاء من مسودة اتفاق مبدئي. وكان ترامب قد طالب أوكرانيا بدفع 500 مليار دولار معللا ذلك بأنه المبلغ الذي دفعته أمريكا لمساعدة أوكرانيا في التصدي لروسيا. ويرى أن هذا المبلغ يساوي ثمن المعادن الأوكرانية. وكان زيلينسكي قد أشار إلى أنه في مقابل استمرار الدعم الأمريكي مستعدٌّ لدفع ثمن اقتصادي، بما في ذلك إتاحة مخزونات بلاده من النفط والغاز فضلاً عن المعادن الهامة.
ويُعتقد أن أوكرانيا تمتلك ما لا يقل عن 20 من إجمالي 50 معدناً تصنّفها أمريكا بأنها معادن هامة، وهذه المعادن تشمل الليثيوم، والغرافيت، والتيتانيوم، واليورانيوم، ومعادن نادرة تشمل 17 عنصراً تعتبر استراتيجية للصناعات الحساسة مرورا بالتليفونات الخلوية ووصولاً إلى الصناعات الحربية والتكنولوجيا الرقمية. وتقدّر كييف أن نحو 5% من المخزون العالمي للمعادن الخام الهامة يوجد في أوكرانيا، بما في ذلك حوالي 19 مليون طن من احتياطي الغرافيت الذي يُستخدم في صناعة بطاريات المركبات الكهربائية.
وهذا ما أسال لعاب الرأسمالي ترامب وطبقته ويسعى للاستحواذ عليه بتكاليف صفرية، فيتعامل مع أوكرانيا كغنيمة حرب، وحقيقة الاتفاق أنه وصفة لاحتلال أوكرانيا. المصيبة أن رئيس أوكرانيا يريد فقط ضمانات لأمن أوكرانيا وغاب عنه أنه حارب روسيا وانتهى به الأمر إلى تسليم أوكرانيا لأمريكا وهي أشرس من روسيا، فقد صرح يوم الأربعاء: "أرغب في الحصول على جُملة واحدة تتضمن عبارة ضمانات أمنية لأوكرانيا". وجاء رد ترامب في اليوم نفسه: "لن أقدّم ضمانات أمنية كبيرة؛ سنترك ذلك لأوروبا فهي في الجوار الأوكراني. لكننا سنحاول الاطمئنان إلى أن كل شيء يمضي على ما يرام". فأسقط رده أوهام زيلينسكي.
فترامب مهتم بصفقة المعادن وعائدها الرأسمالي وإنهاء الحرب هو الطريق المختصر لوضع اليد على أوكرانيا ومعادنها النادرة، فبحسب صحيفة الواشنطن بوست فإن "دونالد ترامب وجد طريقة سريعة لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ألا وهي الاستسلام". أما الوضع الكارثي لأوكرانيا وتكاليفه فهي مسؤولية الأوروبيين بحسب ترامب في ضعفهم وهوانهم، بل إنه يعامل تحالفه مع أوروبا باعتباره شيئاً يمكن المساومة عليه بل ويبتز دول أوروبا عبر البعبع الروسي، ويكسر المحرمات التي وضعتها أوروبا من خلال تفاوضه الأحادي واحتضانه روسيا.
وهذا الوضع المستجد في إدارة العلاقات الدولية بمنطق الصفقات التجارية وبقوة العصابة المتغلبة، هو نتيجة لإفلاس الفكر والسياسة فلم يبق أمام المنظومة الرأسمالية ونموذجها الأمريكي إلا القوة العارية الغاشمة لتحقيق مآربها. تطرح مع هذا الوضع المأزوم للمنظومة الرأسمالية إشكالية كون أمريكا دولة مؤسسات، وهنا تحديدا لا يجب إغفال العامل الرئيسي المؤثر في هذه المؤسسات وهو المال الرأسمالي السياسي، واليوم وفي أعلى هرم السلطة بأمريكا رأسمالي من أصحاب ذلك المال عطفا على سوس إفلاس المنظومة الذي بات ينخر الدولة ومؤسساتها كذلك، ينظر في أمر المؤسسات بل في أمر الدولة برمتها!
فأمريكا ومؤسساتها لسنة 2025 وإفلاسها الفكري والمالي ليست هي أمريكا نيكسون وصدمة نيكسون ودولاره الذي فرضه على العالم كعملة للتجارة والاقتصاد وسلاح سياسي، ففي ستينات القرن الماضي نقل عن نيكسون قوله إن الدولة الأمريكية ماكينة تعمل به أو بدونه. أما اليوم وحالة الانهيار الاقتصادي والمديونية الفلكية والإفلاس الفكري والانقسام الحاد العميق القائم، فالتخبط الاستراتيجي والأزمات الطاحنة للمنظومة الرأسمالية وتناقض مصالح رأسمالييها وما أفرزه من انقسام عميق حاد (فقد اتهم الديمقراطيون في الكونغرس الأمريكي ترامب بإحراج البلاد على المسرح العالمي، وقال السيناتور تشاك شومر زعيم الديمقراطيين بمجلس الشيوخ على موقع إكس: "ترامب وفانس يقومان بعمل بوتين القذر. لن يتوقف الديمقراطيون في مجلس الشيوخ أبداً عن النضال من أجل الحرية والديمقراطية"، كما وصفت رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي المشادة الكلامية بـ "العرض المخزي"). فهذا الوضع الكارثي للمنظومة الرأسمالية ونموذجها الأمريكي الفاضح هو سمة اللحظة الرأسمالية الراهنة، فقد ذهب وزير خارجية أمريكا الأسبق هنري كيسنجر إلى أبعد من ذلك وصرح "أن العالم في حالة فوضى وأن الولايات المتحدة تواجه مشكلة كيفية إنشاء نظام عالمي". كما شكلت الورقة البحثية لمعهد راند لسنة 2017 اعترافا صريحا بإفلاس المنظومة جاءت تحت عنوان "خيارات بديلة للسياسة الأمريكية نحو نظام دولي" وكانت موجهة إلى مكتب وزير الدفاع، وقد أقرت بمحدودية النظام الدولي القائم إن لم تقل ترديه، ولكنها لم تأت بجديد ولم تنشئ جديدا استراتيجيا بل غلب عليها الطابع الأكاديمي النظري، جاء فيها "قضى منهجنا في تحديد رؤى بديلة للنظام جمع حجج قائمة حول كيف قد تكون قواعد النظام المستقبلية أو يجب عليها أن تكون، ولقد استقينا من الدراسات الأكاديمية وتلك المتعلقة بالسياسات الموجودة حول النظام الدولي، إلى جانب التحليل التاريخي للأنظمة الدولية السابقة"، وهكذا لم تخرج الدراسة بحل للمعضلة الاستراتيجية الأمريكية سوى باجترار بعض الدراسات التاريخية الأكاديمية.
فترامب وسياسته الرعناء ليس وضعا لإنشاء جديد، ولكنه وضع لمحاولة رقع الثقب الأسود الكارثي للمنظومة الرأسمالية ونموذجها الصارخ الدولة الأمريكية، فترامب إفراز لحالة التعفن الرأسمالي، فنحن أمام رئيس رأسمالي له بصمته الرأسمالية على المنظومة الرأسمالية، ففرق بين السياسي الخاضع للمال الرأسمالي والخادم للرأسمالية، والرأسمالي الرئيس أي حاكم فعلي من الطبقة الرأسمالية بيده أدوات الفعل والتأثير وأهمها المال وشبكته وعلاقاته. والمنظومة اليوم في إفلاسها الفكري انتهت إلى خالص القوة الغاشمة في إدارة العلاقات الدولية وترامب اليوم هو ترجمتها، فخلفيته هي وهم الإمبراطورية وتقمص نظرية أحد مؤرخيها القدامى "الأقوياء يفعلون ما يستطيعون فعله، والضعفاء يعانون مما يجب أن يعانونه".
وعليه فمقولة إن أمريكا دولة مؤسسات، يجب التعامل معها بحذر شديد، فالقضية في مدى تماسك تلك المؤسسات وصلابتها وانسجام وتناغم إداراتها ورجالها وبقاء ذلك واستمراره في اللحظة الراهنة. فحالة الرأسمالي ترامب وسياساته لها تداعياتها على المنظومة الرأسمالية والدولة والمؤسسات والموقف الدولي والساحة الدولية.
فترامب ينظر للعلاقات الدولية كصفقات تجارية يجب الإسراع في إنجازها بتكاليف صفرية وتفرض أحاديا بمنطق القوة وليس السياسة، فهو يرى في التحالفات وتداعياتها المالية والعسكرية مجرد تكاليف ومصاريف يجب التخلص منها، بل يرى أن القانون الدولي هو باب لتعدد الخصوم وقيد أمام فرض السياسات الأحادية التي يسعى لتنفيذها، وعليه فتجاوز القواعد الدولية وكسر التحالفات هو من صلب سياسته، وتلعب هذه الخلفية دورا كبيرا في تعامل ترامب مع قضايا العالم، فهو مفتون بالغطرسة التي يعتبرها قوة ويزدري التعددية والقانون الدولي والأحلاف ولا يرى فيها إلا عوامل ضعف وإضعاف وفرامل أمام تغوله.
وفي غطرسته وعماه الاستراتيجي مقتله، فهو يسعى للتصرف بمنطق الإمبراطورية مع انتفاء شروطها في دولته المفلسة الغارقة في بحر ديونها ومستنقع شذوذها الحضاري، وهذه الغطرسة التي تتصنع القوة مع انتفاء أسبابها تدفع إلى التهور المفضي إلى الهاوية وأمريكا على شفيرها ومعها الغرب ومنظومته الرأسمالية المجرمة.
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مناجي محمد